سورة فاطر - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}
قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ} يعني القرآن. {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب. {إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.


{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: هذه الآية مشكلة، لأنه قال جل وعز: {اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} ثم قال: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال النحاس: فمن أصح ما روى في ذلك ما روي عن ابن عباس {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: الكافر، رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضا. وعن ابن عباس أيضا {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} قال: نجت فرقتان، ويكون التقدير في العربية: فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه، أي كافر.
وقال الحسن: أي فاسق. ويكون الضمير الذي في {يَدْخُلُونَها} يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. وعن عكرمة وقتادة والضحاك والفراء أن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق. قالوا: وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة {وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً} [الواقعة: 7] الآية. قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفي ظالم. ورواه مجاهد عن ابن عباس. قال مجاهد: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} أصحاب المشأمة، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} أصحاب الميمنة، {وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} السابقون من الناس كلهم.
وقيل: الضمير في {يَدْخُلُونَها} يعود على الثلاثة الأصناف، على ألا يكون الظالم ها هنا كافرا ولا فاسقا. وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء، وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة، والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر. والمقتصد قال محمد بن يزيد: هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها، فيكون {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين، وروي عن أبي سعيد الخدري.
وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم- ورب الكعبة- وتفاضلوا بأعمالهم.
وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
وروى أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية وقال: «كلهم في الجنة». وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له». فعلى هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله: {أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}
مضافا حذف كما حذف المضاف في {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم، فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} [هود: 31] أي تزدريهم، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة: 132]. قال النحاس: وقول ثالث- يكون الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته، فيكون: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر، لان الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. قلت: القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله، لان الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله، ولا اصطفى دينهم. وهذا قول ستة من الصحابة، وحسبك. وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية.
الثانية: قوله تعالى: {أَوْرَثْنَا الْكِتابَ} أي أعطينا. والميراث عطاء حقيقة أو مجازا، فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر. و{الْكِتابَ} ها هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، وكان الله تعالى لما أعطى أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا. {اصْطَفَيْنا} أي اخترنا. واشتقاقه من الصفو، وهو الخلوص من شوائب الكدر. وأصله اصتفونا، فأبدلت التاء طاء والواو ياء. {مِنْ عِبادِنا} قيل المراد أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس وغيره. وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأول لم يرثوه.
وقيل: المصطفون الأنبياء، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر، قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ} [النمل: 16]، وقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب. {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} من وقع في صغيرة. قال ابن عطية: وهذا قول مردود من غير ما وجه. قال الضحاك: معنى {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك. الحسن: من أممهم، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم. والآية في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق، فقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل.
وقال ذو النون المصري: الظالم الذاكر الله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه.
وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الافعال، والسابق صاحب الأحوال.
وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب.
وقيل: الظالم الزاهد في الدنيا، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة، والمقتصد العارف، والسابق المحب.
وقيل: الظالم الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد الصابر على البلاء، والسابق المتلذذ بالبلاء.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على الهيبة.
وقيل: الظالم الذي أعطي فمنع، والمقتصد الذي أعطي فبذل، والسابق الذي يمنع فشكر وآثر. يروى أن عابدين التقيا فقال: كيف حال إخوانكم بالبصرة؟ قال: بخير، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا. فقال: هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا.
وقيل: الظالم من استغنى بماله، والمقتصد من أستغنى بدينه، والسابق من أستغنى بربه.
وقيل: الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به.
وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره.
وقال بعض أهل العلم في هذا: بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة، فهو أولى بالظلم.
وقيل: الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه.
وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف. وقالت عائشة رضي الله عنها: السابق الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف، وهم كلهم مغفور لهم. قلت: ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره. وبالجملة فهم طرفان وواسطة، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل، ومنه قول جابر بن حني الثعلبي:
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا *** وليس علينا قتلهم بمحرم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد، أي ما لم يجوروا، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا، فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات. {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} يعني إتياننا الكتاب لهم.
وقيل: ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير.
وقيل: وعد الجنة لهؤلاء الثلاثة فضل كبير.
الثالثة: وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل: التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفا، كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20].
وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل، ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره وقيل: قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه. واتكل المقتصد على حسن ظنه، والسابق على طاعته.
وقيل: قدم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.
وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه: قدم الظالم ليخبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء، لان الاصطفاء يوجب الإرث، لا الإرث يوجب الاصطفاء، ولذلك قيل في الحكمة: صحح النسبة ثم ادع في الميراث.
وقيل: أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب، كما قدم الصوامع والبيع في سورة الحج على المساجد، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله.
وقيل: إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى، كقوله تعالى: {لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]، وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، وقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] قلت: ولقد أحسن من قال:
وغاية هذا الجود أنت وإنما *** يوافي إلى الغايات في آخر الامر
الرابعة: قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} جمعهم في الدخول لأنه ميراث، والعاق والبار في الميراث سواء إذا كانوا معترفين بالنسب، فالعاصي والمطيع مقرون بالرب. وقرئ: {جنة عدن} على الافراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين لقلتهم، على ما تقدم. و{جنات عدن} بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها. وهذا للجميع، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وقرأ أبو عمرو {يدخلونها} بضم الياء وفتح الخاء. قال: لقوله: {يُحَلَّوْنَ}. وقد مضى في الحج الكلام في قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ}. {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قال أبو ثابت: دخل رجل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحدتي يسر لي جليسا صالحا. فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا فلانا أسعد بذلك منك، سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} قال: «فيجيء هذا السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ويوبخ ويقرع ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}» وفي لفظ آخر: «وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} إلى قوله: {ولا يمسنا فيها لغوب}».
وقيل: هو الذي يؤخذ منه في مقامه، يعني يكفر عنه بما يصيبه من الهم والحزن، ومنه قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] يعني في الدنيا. قال الثعلبي: وهذا التأويل أشبه بالظاهر، لأنه قال: {جنات عدن يدخلونها}، ولقوله: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} والكافر والمنافق لم يصطفوا. قلت: وهذا هو الصحيح، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها وطيب وطعمها مر». فأخبر أن المنافق يقرؤه، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن المنافق في الدرك الأسفل من النار، وكثير من الكفار واليهود والنصارى يقرءونه في زماننا هذا.
وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. والنصب: التعب. واللغوب: الإعياء.


{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ} لما ذكر أهل الجنة وأحوالهم ومقالتهم، ذكر أهل النار وأحوالهم ومقالتهم. {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} مثل: {لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} [الأعلى: 13]. {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها} مثل: {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} [النساء: 56]. {كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}
أي كافر بالله ورسوله. وقرأ الحسن {فيموتون} بالنون ولا يكون للنفي حينئذ جواب ويكون {فيموتون} عطفا على {يُقْضى} تقديره لا يقضى عليهم ولا يموتون كقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. قال الكسائي: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} بالنون في المصحف لأنه رأس آية و{لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} لأنه ليس رأس آية. ويجوز في كل واحد منهما ما جاز في صاحبه. {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها} أي يستغيثون في النار بالصوت العالي. والصراخ الصوت العالي، والصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. قال:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصراخ له قرع الظنابيب
{رَبَّنا أَخْرِجْنا} أي يقولون ربنا أخرجنا من جهنم وردنا إلى الدنيا. {نَعْمَلْ صالِحاً} قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله. وهو معنى قولهم: {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي من الشرك، أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} هذا جواب دعائهم، أي فيقال لهم، فالقول مضمر. وترجم البخاري: (باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} يعني الشيب) حدثنا عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة». قال الخطابي: {أعذر إليه} أي بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته. والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لان الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار، الأول بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والموتان في الأربعين والستين. قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}: إنه ستون سنة. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في موعظته: «ولقد أبلغ في الاعذار من تقدم في الإنذار وإنه لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ}». وذكر الترمذي الحكيم من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}». وعن ابن عباس أيضا أنه أربعون سنة. وعن الحسن البصري ومسروق مثله. ولهذا القول أيضا وجه، وهو صحيح، والحجة له قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف 15] الآية. ففي الأربعين تناهي العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه، والله أعلم.
وقال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت. وقد مضى هذا المعنى في سورة الأعراف. وخرج ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك». قوله تعالى: {وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} وقرئ: {وجاءتكم النذر} واختلف فيه، فقيل القرآن. وقيل الرسول، قاله زيد بن علي وابن زيد.
وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين ابن الفضل والفراء والطبري: هو الشيب.
وقيل: النذير الحمى.
وقيل: موت الأهل والأقارب.
وقيل: كمال العقل. والنذير بمعنى الإنذار.
قلت: فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحمى رائد الموت». قال الأزهري: معناه أن الحمى رسول الموت، أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه. والشيب نذير أيضا، لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب. قال:
رأيت الشيب من نذر المنايا *** لصاحبه وحسبك من نذير
وقال آخر:
فقلت لها المشيب نذير عمري *** ولست مسودا وجه النذير
وأما موت الأهل والأقارب والأصحاب والاخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان، وحين وزمان. قال:
وأراك تحملهم ولست تردهم *** فكأنني بك قد حملت فلم ترد
وقال آخر:
الموت في كل حين ينشر الكفنا *** ونحن في غفلة عما يراد بنا
وأما كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات، فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه، فهو نذير. وأما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقال: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الاسراء: 15]. قوله تعالى: {فَذُوقُوا} يريد عذاب جهنم، لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم. {فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي مانع من عذاب الله.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11